هل هناك فرق بين الشيخ الحبيب والعلماء القدماء في ترك التقية؟

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp
هل هناك فرق بين الشيخ الحبيب والعلماء القدماء في ترك التقية؟

21 رجب الأصب 1438

حاولت الجهات التي تنزعج من إقبال المؤمنين على تأييد منهج الشيخ الحبيب إيقاف هذا التأييد باتهامه بأن منهجه يخالف منهج العلماء حيث أنهم حريصون على التزام التقية وعدم الجهر بالموقف من رموز المخالفين حتى لا تسيل الدماء.

الشيخ من جانبه تمكن من إحراج هذه الجهات عندما ذكر في كتبه ومحاضراته أمثلة عديدة لترك العلماء للتقية والجهر بالبراءة من أعظم رموز المخالفين على الرغم مما أدى إليه ذلك من إسالة دماء الشيعة الأبرياء.

على سبيل المثال لقد طرح الشيخ ذلك في محاضرته: نحن كالمفيد نجاهر بالرفض وسط الدماء

ومحاضرته: دماؤنا قربان لإظهار الحق والبراءة

بعد هذا الإحراج حاول البعض أن يطرح أن هناك فرقا بين أولئك العلماء وبين الشيخ الحبيب حيث إن أولئك العلماء كانوا مضطرين لمخالفة التقية لأنه كان يتوقف عليه حفظ الحق أما الشيخ فليس مضطرا لذلك لأن حفظ الحق موجود وغير متوقف على تركه للتقية.

هذا الإشكال ذكره الشيخ حسين النصراوي في رسالته للشيخ الحبيب حيث قال: قد يقال بوجود فرق، وهو أن مافعله هؤلاء الأعلام من تدوين تلك القضايا وروايتها كان يتوقف عليه حفظ الحق، فكان لابد منه، والتقية إنما هي لازمة في غير الموارد التي تسبب اندثار الحق وزواله، أما إذا كان العمل بالتقية سيؤدي إلى اندثار الحق وزواله، فتحرم التقية حينئذ، ولذا لم يكن لهؤلاء أن يعملوا بالتقية، أما بالنسبة لكم فيقال: إن الحق محفوظ، ومدون ومسجل في مئات الكتب وفي صدور مئات العلماء وهو يتناقل من جيل إلى جيل، ولايتوقف حفظ الحق على رفع التقية منكم. - انتهى.

وفي كتابه [حل الإشكال] أجاب الشيخ الحبيب عن هذا بقوله: دعوى الفرق بين ما نفعله ونمضي عليه وبين ما فعله الأعلام - رضوان الله عليهم - ومضوا عليه من الطعن والتسقيط لرموز الضلالة؛ دعوى أهون من أن يُصغى إليها. ذلك لأنه إنْ جُعِل الفرق في أن الحق اليوم محفوظ في مئات الكتب وفي صدور مئات العلماء يتناقلونه من جيل لجيل بخلاف ما كان في أزمنة الماضين من مشايخنا لذا ما كان لهم العمل بالتقية؛ نُقِض هذا بأنه كان كذلك أيضاً في أزمنتهم إلا في ما ندر، ولا أقل من أنه كان كذلك في أزمنة المتأخرين ومتأخري المتأخرين، فأي داعٍ إذن لأن ينبري العلامة المجلسي - مثلا - ليؤلف كتاباً كحياة القلوب يعيد فيه ذكر ما هو مدوّن محفوظ في ما تقدّمه من كتب عديدة وما هو مستقرّ في صدور المئات من العلماء يتناقلونه من جيل لجيل من أن «عائشة وحفصة لعنة الله عليهما وعلى أبويهما قتلتا رسول الله صلى الله عليه وآله»؟! [حياة القلوب ج2 ص700] فيقع هذا الكتاب وفيه هذه العبارة بيد قضاة المحكمة الشرعية في كابل فيفتون بسببه بارتداد الشيعة الهزارة في أفغانستان وإهدار دمائهم، فتقع تلك المجزرة الرهيبة التي أودت بحياة عشرات الألوف منهم حتى كان جند عبد الرحمن خان يستمتعون برمي الرُّضَّع في الهواء وتقطيعهم بالسيوف إرباً إرباً! فيما بيعت الحرائر الشيعيات في سوق النخاسة بخمس روبيات! [راجع: تاريخ شيعة أفغانستان لحسين علي يزداني، وأفغانستان في خمسة قرون لمير محمد صديق فرهنك، ونظرة على ماضي وحاضر أفغانستان لطالب قندهاري]

ألا قيل للعلامة المجلسي: دماء هذا الشعب الشيعي الأفغاني بأكمله في رقبتك! قد كان الحق مدوّناً في الكتب محفوظاً في صدور المئات من العلماء يتناقلونه من جيل لجيل بما لا يُخاف عليه الاندراس أو الضياع، فأي داعٍ لأن تعيد تدوينه بهذا الأسلوب المستفز لمشاعر العدو حتى سُفكت عليه الدماء وانتهُكت لأجله الأعراض؟!
فلا يخلو المدافع عن العلامة من أن يكون دفاعه دائراً بين تبريرات ثلاث:

أولاها؛ أنه لم يكن متعمّداً لذلك ولا ملتفتاً لإمكان وقوعه بسبب كتبه، ولو كان لما فعل.
وهو تبرير بارد سخيف، لأنه في حقيقته يجعل من مثل العلامة المجلسي رجلاً بليداً أو طائشاً لم يدرك العواقب! أو غرّاً لم يعرف النوائب! وهو الحكيم الذي صقلته التجارب، والفقيه الذي علم المشارب، والرَوِّيُ الذي لا يعيبه في رويَّته وبعد نظره عائب. وكيف يمكن تصديق مثل هذا الكلام الذي يسّفه هذا العالم العَلَم وينزله منزلة جاهلٍ غافلٍ لم يسمع بالتقية ولم يقرأ تاريخ الشيعة ولم يعلم بأن من أكثر ما يحفّز عدوهم للإجرام في حقهم وقوفه على لعنة أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة في كتبهم؟!
ثانيها؛ أنه كان ملتفتاً إلى إمكان وقوع سفك الدماء بسبب كتبه إلا أنه رأى ذلك احتمالاً ضعيفاً لما تحقق في عصره من تمكّن الشيعة بالدولة الصفوية، فعمل بالظن الغالب وفي مثله يُعذر المجتهد، وأين هذا مما نحن فيه اليوم حيث الدماء تُهراق على مدّ البصر فلزم الكف عن إظهار البراءة.

وهذا أيضاً كسابقه في السخف والبرود، إذ يرجع إلى تصوير العلامة - رضوان الله تعالى عليه - ضعيف الإدراك مغترّاً متهاوناً غير مدركٍ لشيء من أبسط ما يدركه العاقل وهو أن الأيام دول، ناهيك عن أن الواقع التأريخي يقول أنه إن كانت للشيعة مكنة في فارس فلم تكن في غيرها، بل كان الشيعة يقتلون ويذبحون في غيرها من البلاد، بل على أطرافها وتخومها حيث كانت الحروب والمناوشات تجري بين الصفويين والعثمانيين، وكانت آلة التجييش العثمانية تقوم على أساس تكفير الشيعة من واقع ما هو موجود في كتبهم مما يبيح قتلهم وقتالهم. وإزاء هذا الواقع لا يمكن المصير إلى غلبة الظن تلك.

ولعمري؛ إن كان ممكنا أن يُناقَش في هذا، فلا يمكن أبداً في شأن مثل الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه، الذي كانت أشلاء الشيعة تتناثر طوال عصره عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، في بغداد وفي غيرها من البلاد، لا يزيده ذلك الذي يراه من سفك دماء الشيعة إلا مضيّاً في تكفير أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة والنيل منهم ومن سائر أهل الردة والنفاق بأصرح العبائر، لا في التأليف والتدوين فحسب؛ بل في مجالس المناظرة والجدل مع كبراء أهل الخلاف، وتلك كتبه وآثاره بين يديك فانظر فيها. على أنه لم يكن بمأمن، فلقد استهدفوه غير مرة وتعرّضوا له، وهو مع ذلك ثابت على عزمه غير متنهنهٍ عنه. ودعوى الفرق بين زمانه وظروفه وبين زماننا وظروفنا ليست سوى مكابرة، فلا فرق مطلقاً من هذه الجهة.

فلا يبقى من التبريرات إلا ثالثها؛ وهو أنه لم تكن لتغيب عن مثل العلامة المجلسي - رضوان الله تعالى عليه - تلك المحاذير حين قام بما قام به، إلا أنه أدرك بفقاهته ونباهته أنه لا يصح التعويل على ما اختزنته الكتب السالفة وصدور العلماء وإن كانوا بالمئات أو الألوف، بل لا بد في كل زمان من تجديد لهذا الدين وإلا صار في معرض الضياع أو الخضوع. وما هذا التجديد إلا الضمانة الحقيقية لحفظ هذا الدين واستمراره والحيلولة دون خموله أو سقوطه تحت هيمنة دين مغاير أو فكر دخيل، تماماً كما يجدّد الجهاد الابتدائي أمر الدين ويجعله في حصن حصين، منيعاً عزيزاً.

والتجديد الديني يتخذ أشكالاً وصوراً متنوعة، منها تنشيط ما خمل، ونشر ما انطوى، وإخراج ما استكنّ، وإذاعة ما استسر، وتنقية ما أسن، وتنميق ما ردئ، وجمع ما تفرّق، وإصلاح ما تشوّه. قوام ذلك كله التبليغ والصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بجميعه داخل تحت عنوان «إحياء أمرنا»، فلا يصح إذن قصر النظر - في تحديد مفهوم ما يتوقف عليه حفظ الدين المجوّز لرفع التقية واسترخاص الدماء - على ما يكون لولاه لاندثر الحق وانقرض، إذ قد يبقى الدين في طيات الكتب وجنبات الصدور، إلا أنه مع تعطيل التبليغ والتجديد يأخذ بالانحسار أو التضاؤل ولو على مدى بعيد، فيقع تحت هيمنة دين آخر يتمدد، ولا يبقى إلا في نطاق ضيق لا تقبله الشريعة، لأنه حينئذ يهدد أصل وجود الدين نفسه، لذا كانت لمطلوبية التبليغ وإقامة الدين من القوة والغلبة ما تذوب فيها سائر المطلوبيات، ولذا نجد اللسان الشرعي في الكتاب والسنة ينحو دوماً منحى التأكيد على إبقاء كلمة الله هي العليا وإظهار الدين على الدين كله ونفي سبيل الكافرين على المؤمنين ونحو ذلك مما يضمن العمل به عدم وقوع ديننا تحت هيمنة دين آخر، فيتعطّل مثلاً شيءٌ من بيان ديننا لأن ديناً آخر يرفضه ويفرض بهيمنته السكوت عن بيان ذلك الشيء.

ونحن اليوم ماضون على ما مضى عليه العلامة المجلسي وغيرهم من الأعلام رضوان الله تعالى عليهم. نقول كما قالوا ونفعل كما فعلوا.
إن العلامة المجلسي صرّح في مقدمة بحاره بأن ما دعاه إلى تأليفه هو ملاحظته وقوع أصول الحديث المعتبرة في الهجران مما أخلى الساحة لرواج العلوم الباطلة بدلاً منها، فانطلق لجمع ما تفرّق منها وإعادة ضبطها وترتيبها وتبويبها، ثم شرحها وإيضاح ما جاء فيها.

لم يكن الحق إذن غير محفوظ، بل كان محفوظاً، ولكنه في طوايا هذه النسخ من أصول الحديث المعتبرة. وكل ما فعله العلامة المجلسي هو إعادة إحيائها وتجديدها بلغة زمانه لكي لا تظل مهجورة لا يلتفت إليها الناس. وهذا عين ما نصنع، فإن الحق في زماننا محفوظ نعم، ولكن أين؟ في طوايا مصادر وكتب قد هُجرت، حتى لم يعد أهل الحوزة أنفسهم يعرفون ما جاء فيها إلا من رحم ربك، فما ظنك بسائر العوام من الناس! فانطلقنا لجمع ما تفرّق فيها وإعادة إحيائه وتجديده بلغة زماننا حتى يتعرف الناس على دينهم من جديد، ويعودون إلى أصولهم الرافضية المهجورة، التي حلّت محلها أصول ومعتقدات وأفكار غريبة مستوردة ببركات عميد المنكر والبتري الأول وأضرابهما وصلت مثلاً إلى حد الادعاء بأن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قاتل جندياً تحت لواء «الخليفة الأول» أبي بكر إذ كان حكمه يقوم على «الإسلام والعدل»!

كان غالب الشيعة لا يعرفون قبلنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قُتل بالسم من عائشة وحفصة بأمر من أبويهما! ومات مَن مات منهم على اعتقاد المخالفين وهو أن النبي صلى الله عليه وآله مات حتف أنفه أو سمّته امرأة يهودية! وكيف يُتصوَّر إمكان معرفتهم بهذه الحقيقة وهي مغمورة في بطون الكتب التي لا يطلع عليها أحد، ولا يجرؤ مَن اطلع عليها أن يتحدث بها على المنابر؟!

فعلنا كما فعل العلامة المجلسي. أخرجنا هذه الحقيقة من مثل تفسير العياشي رفع الله درجاته، ونشرناها. نشرها العلامة المجلسي في بحاره وفي حياة القلوب، ونشرناها نحن في الفاحشة وعلى المنبر. لكن الفرق أن مجزرة قد وقعت على الشيعة في أفغانستان بذريعة ما فعله العلامة، فيما لم يبلغنا قط أن مجزرة قد وقعت بذريعة ما فعلناه! هبْ أنها وقعت وكان هذا سببها حقا؛ ألا نكون في حلٍّ كما كان العلامة المجلسي في حل؟ ومن قبله المفيد؟ وغيرهما من العلماء الأعلام الذين جرّت أفعالهم على الشيعة قتلاً عبر العصور؟ ولئن قلتَ: هؤلاء دوّنوا وكتبوا ما خافوا عليه الضياع. قلنا: وهل لك أن تعتذر بمثل هذا عن المحقق الكركي رضوان الله تعالى عليه الذي كانت مواكب السباب واللعن تمشي بين يديه لم يوقفها مع ورود رسائل أهل المدينة المنورة إليه: أنتم تلعنون أئمتهم في أصفهان ونحن نُقتل بهذا اللعن في الحجاز! [راجع: طرائف المقال للسيد علي أصغر البروجردي ج2 ص415]

أي شيء خاف المحقق ضياعه ولا تحفظه إلا مواكب السباب واللعن؟ إنما جدّد البراءة المهجورة بهذا الشكل العملي الخارجي المتوافق مع مقتضيات الزمان. وكذلك نحن نفعل بمثل احتفالات البراءة في هذا الزمان.

كم هي نظرة قاصرة تلك التي تفترض أن عوام الناس لن يتلاشى الحق في ما بينهم ما دام مدوّناً في الكتب محفوظاً في قلوب مئات العلماء - مع أنه في الواقع ليس كذلك! - إنها نظرة تفترض أن عوام الناس جميعهم من المتعلمين أو المثقفين من أهل المطالعة للكتب والتفتيش عن المصادر! والحال أن معظمهم لم يقرأوا قط في حياتهم خمس صفحات من كتاب ديني متداول! فكيف بمصدر قديم مهجور غير متداول إلا في أنطقة ضيقة بين بعض العلماء، وهم مع ذلك يسترونه ويخافون من كشف ما فيه بذريعة التقية والخوف على دماء الشيعة ولأن الحق محفوظ في المصادر والصدور!

إنه ليس من حق محفوظ معلوم كحق سيد الشهداء الحسين صلوات الله عليه، فلا أحد من الشيعة لا يعرف مظلوميته، وطغيان مَن طغى عليه وقتله كيزيد عليه لعائن الله، بل يعرف ذلك غيرهم، فذلك مدوّن في ألوف ألوف الكتب، محفوظ في صدور ألوف ألوف العلماء، تتناقله الأجيال منذ نعومة أظفارها، وما من خوف على هذه الحقيقة من الزوال أو الضياع. ومع ذلك لم يُسمع قط أن أحداً من الشيعة طالب بالتوقف عن إحياء هذه القضية والجهر بها على المنابر درءاً للقتل الذي يتعرّض له الشيعة بسبب ذلك! فما زالت الشيعة منذ يوم الطف إلى يومنا هذا تتعرّض للقتل في كل عهد كلما أحيت قضية الإمام الحسين عليه السلام بالمجالس والمواكب والمسيرات العزائية، مع أن مظلوميته من أوضح الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان!

فإذا كانت الدماء تهون في إحياء مظلومية أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع وضوحها؛ فلماذا لا تهون الدماء في إحياء مظلومية أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله مع خفائها؟! وإذا كانت التقية تتعطل في إحياء مظلومية سبط النبي؛ فلماذا لا تتعطل في إحياء مظلومية النبي نفسه؟! وإذا كان الخطيب الذي ينال من قاتل السبط معذوراً بل بطلاً وإن أدّى ذلك إلى مقتل مرتادي مجلسه؛ فلماذا يكون الخطيب الذي ينال من قاتل النبي مأثوماً إذا ما أدّى كلامه لمقتل مرتادي مجلسه؟! وإذا كان الذي يحضر المجلس الحسيني شهيداً إذا قُتل؛ فلماذا لا يكون الذي يحضر المجلس المحمدي شهيداً إذا قُتِل بل يُقال عنه أنه جنى على نفسه وألقاها في التهلكة بحضوره في مجلس يُنال فيه من رموز القوم؟!
إن موازينكم مختلة.. يا قوم!

- انتهى.

شارك المقال على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp